Skip to Content

كيف يمكن لنظام أن يكون طائفيًا وعلمانيًا في آن؟

November 21, 2025 by
محمد زهير عطفه
| No comments yet

قد يبدو الجمع بين الطائفية والعلمانية في نظام سياسي واحد أشبه بالمستحيل، لأن كلًّا منهما يستند إلى منطق مختلف جذريًا. الطائفية تفترض أن الجماعات الدينية أو المذهبية هي الوحدات الأساسية التي تُبنى عليها السلطة، في حين أن العلمانية تفترض حياد الدولة إزاء الدين وتأكيد وحدة المواطنة. لكن التجارب السياسية الحديثة تكشف أن الأنظمة قد لا تجد حرجًا في التوفيق بينهما، بل تجعل من هذا التناقض الظاهر موردًا لاستقرارها وإعادة إنتاج سلطتها. ليس المطلوب هنا أن تكون الدولة متصالحة مبدئيًا مع الطائفية أو العلمانية، بل أن تحوّلهما معًا إلى أدوات مرنة، تستخدم كل واحدة بحسب الظرف الذي يخدم استمرارها.


فمن جهة أولى، يتيح منطق الطائفية للنظام أن يعيد تقسيم المجتمع إلى جماعات صغيرة يسهل التحكّم بها. الطائفة ليست مجرد انتماء ديني، بل تتحول إلى وسيط سياسي؛ تُمنح حصصًا في السلطة، وتُستخدم لضبط التوازنات، وتُستدعى في لحظات الأزمات بوصفها خط الدفاع الأخير ضد أي مشروع تغييري. بهذا المعنى، الطائفية ليست بقايا تقليدية تعيق الدولة الحديثة، بل وسيلة فعالة لإدارة الانقسامات وتحويلها إلى شبكات ولاء. وجود الطائفة في هذا الإطار ليس حرية أهلية طبيعية، بل هو وجود مشروط دائمًا بموافقة السلطة التي تحدد من يحق له التحدث باسمها ومن لا يحق.


ومن جهة ثانية، تتيح العلمانية للنظام واجهة مختلفة تمامًا. فهي الخطاب الذي يقدّم نفسه عبره إلى الداخل والخارج باعتباره دولة عقلانية، محايدة، ضامنة لوحدة المواطنين، ومتماشية مع قيم الحداثة. لكنها علمانية انتقائية، تُستدعى عند الحاجة، وتُطبق في حدود مرسومة بدقة. فإذا احتاج النظام إلى تبرير قمع حركة دينية معارضة، فهو يفعل ذلك باسم العلمانية التي تفصل بين الدين والسياسة. وإذا احتاج إلى نيل شرعية دولية، فإنه يقدّم نفسه كدولة علمانية تقف في وجه الأصولية. العلمانية هنا لا تُمارَس كالتزام مبدئي، بل كأداة خطابية تمنح الدولة صورة تقدّمية من الخارج، وفي الوقت نفسه توفر لها غطاءً لقمع خصومها في الداخل.


الجمع بين الطائفية والعلمانية في بنية واحدة ليس تناقضًا بل استراتيجية. فالنظام يستعمل الطائفية لإبقاء المجتمع مشرذمًا، ويستعمل العلمانية ليحجب حقيقة هذا التشرذم خلف ستار عقلاني يوحي بالوحدة. الطائفية تخدمه في الداخل حيث يواجه تحديات السيطرة اليومية، والعلمانية تخدمه في الخارج حيث يحتاج إلى لغة مفهومة لدى القوى الدولية. لكن الأهم أن كل واحدة منهما تُستخدم لتبرير الأخرى. فإذا وُجه للنظام نقد بأنه يعيد إنتاج الطائفية، ردّ بأن هذا لا يتعارض مع جوهر علمانيته، بل هو إجراء لحماية التعددية. وإذا وُجه له نقد بأنه يقمع الدين باسم العلمانية، أجاب بأن التوازن الطائفي يستلزم حزمًا سلطويًا. في كلتا الحالتين، التناقض يتحول إلى دائرة مغلقة من التبرير المتبادل.


النتيجة أن النظام لا يكون علمانيًا "بالرغم من" طائفيته، ولا طائفيًا "بالرغم من" علمانيته، بل هو كلاهما معًا، يدمج بينهما بمهارة سياسية تسمح له بالتحكم في تعريف الحدود. هو من يقرر متى يُعرّف الناس بوصفهم طوائف، ومتى يُعرّفون بوصفهم مواطنين علمانيين. هو من يحدد متى يُستدعى الدين كجزء من الهوية الثقافية المقبولة، ومتى يُقصى لأنه خطر على الاستقرار. بهذا يصبح النظام المرجع الوحيد الذي يمتلك الحق في إعادة كتابة قواعد اللعبة باستمرار، وفق ميزان القوى ومصالحه اللحظية.


ولعل المفارقة الأبرز في هذا النمط من الحكم أن الأزمات التي تبدو وكأنها تهدد بقاءه تتحول في الواقع إلى مصدر قوته. فحين تندلع صراعات طائفية، يظهر النظام بمظهر الضامن للعلمانية، فيقدّم نفسه كحَكَم فوق الانقسامات. وحين يُتّهم بأنه قمعي أو سلطوي، يعود ليبرر قبضته الحديدية بأنها ضرورية لمنع انزلاق البلد نحو حرب أهلية طائفية. في الحالتين، لا يخسر شيئًا، لأنه هو الوحيد القادر على ضبط توازن دقيق بين نقيضين يبدوان غير قابلين للتعايش.


من هنا نفهم أن الطائفية والعلمانية في مثل هذه الأنظمة ليستا منظومتين متعارضتين، بل تقنيتين للسيطرة. الأولى تنظم المجتمع عبر تقسيمه إلى وحدات محكومة بولاءات ضيقة، والثانية تنظم الرموز والمعاني التي تبرر هذا التقسيم وتقدمه كخيار عقلاني. حين تجتمعان، تتشكّل آلية سياسية قادرة على البقاء طويلًا لأنها توظّف الانقسام وتحوّله إلى مورد دائم للسلطة. ولعل أخطر ما في الأمر أن هذا التلاعب لا يترك مجالًا لبديل سياسي حقيقي؛ فكل محاولة للخروج من الطائفية تُواجَه بخطاب علماني سلطوي يبرر القمع، وكل محاولة لاستعادة الدين من قبضة الدولة تُواجَه بخطاب يصفها بأنها تهديد لوحدة المجتمع.


إن نظامًا كهذا لا يحتاج إلى أن يحسم خياره بين الطائفية والعلمانية، لأنه يعيش على المسافة الفاصلة بينهما. إن قوته تكمن بالضبط في أنه يظل قادرًا على التنقل بين الخطابين دون أن يُسائل نفسه عن التناقض، بل يجعل من التناقض ذاته أداة حكم. والنتيجة أن المجتمع يبقى معلّقًا بين انتماءات أهلية لا يقدر أن يتجاوزها، وخطاب علماني لا يتحقق فعليًا، فيما تبقى الدولة وحدها هي المستفيد الأكبر من هذا الوضع المعلّق، لأنها وحدها من يملك سلطة تحديد المعاني وحدود اللعبة السياسية.

Share this post
Tags
Archive
Sign in to leave a comment