Skip to Content

الأقليات والسلطة الجديدة في سوريا: بين الاتهام والواقع

الاقليات في سوريا في مشروع أحمد الشرع
September 9, 2025 by
الأقليات والسلطة الجديدة في سوريا: بين الاتهام والواقع
أحمد ثلجي
| No comments yet

الأقليات والسلطة الجديدة: بين الاتهام والواقع


كثيراً ما نسمع اليوم اتهامات يطلقها سياسيون وإعلاميون وناشطون "حديثو الحرية" بأن السلطة الجديدة تمارس حملة ممنهجة لإبادة الأقليات.

وأنا هنا لا أقف موقف المدافع عن هذه السلطة، بل أسعى لنقض هذه الادعاءات بالعودة إلى وقائع عايشناها جميعاً خلال سنوات الثورة، في أسوأ مراحل هذه السلطة وأكثرها تشدداً وعداءً، قبل أن تتحول إلى الدولة الحالية وقبل التغيير الكبير الذي بدأ تدريجياً منذ عام 2019.



من الفصيل إلى الدولة


عندما كانت هذه السلطة مجرد فصيل متشدد مصنَّف على لوائح الإرهاب في معظم دول العالم، بل حتى بين التنظيمات المشابهة كانت محاربة، ومع الفصائل المعتدلة في حالة عداء دائم، شهدنا مواقف فارقة.


فحين وصلت جبهة النصرة إلى إدلب بعد فك ارتباطها بالقاعدة، كان هناك قرى في جبل السماق يقطنها مواطنون من الدروز. بالفعل، أقدمت مجموعة من العناصر على الاعتداء على بعض سكان هذه القرى، إلا أن الأمير المسؤول أبو محمد الجولاني أصدر قراراً صريحاً بمنع أي اعتداء على دروز جبل السماق. وبالتزامن مع نجاح الشرع بالتعامل مع ملف المتشددين تحسنت أوضاع المسيحيين في قرى إدلب المسيحية بإضطراد.


هذا الموقف لم يكن مألوفاً في طبيعة التنظيمات العقائدية المشابهة، لكنه شكّل مؤشراً على بداية تحوّل جذري في الذهنية. الجولاني في ذلك الوقت لم يكن يقرأ مشروعاً أيديولوجياً عابراً للحدود، بل كان ينظر إلى مشروع وطني سوري، يستند إلى الواقعية السياسية والقدرة على التكيف مع المتغيرات.


عرف كيف يستغل الفرص، وكيف يبني التحالفات، وكيف يحافظ على نفسه وعلى مشروعه، في وقتٍ كان من المستحيل لأي تنظيم أن يستمر دون أن يتحول إلى أداة بيد جهة خارجية. ومع ذلك، استطاع أن يبقى مستقلاً، وأن يفرض نفسه لاعباً أساسياً لا يمكن تجاوزه.


نجح فيما عجزت عنه دول أنفقت ثلاثة ترليونات دولار في حربها على الإرهاب: اجتث التعصب الأيديولوجي، ووحّد الفصائل، واستبعد كل من رفض مشروعه، وضبط الأمن، ثم بدأ بالحوكمة والإعداد، حتى وصل إلى إسقاط النظام وحوّل فصيله إلى دولة بشرعية دولية وثورية لم نكن نتخيّلها يوماً ممكنة.


كما أنني تابعت مع مسيحيين في حلب التطورات ساعة بساعة بعد تحرير حلب المفاجئ، بما فيها تفاصيل حياتهم وكنائسهم وصلواتهم، وهو ما عزز القناعة بأن خطاب "استهداف الأقليات" لا يعدو كونه وهماً سياسياً.



الأقليات في معارك السلطة الجديدة


خلال معركة "ردع العدوان" على سبيل المثال، كان واضحاً أن هيئة تحرير الشام ــ التي تحولت لاحقاً إلى نواة السلطة ــ تجنبت استهداف القرى والمناطق ذات الخصوصية الدينية أو القومية. بل إن الخطاب الرسمي وقتها شدد على أن الحرب ليست مع الأقليات ولا مع المدنيين، وإنما مع النظام وحلفائه.


وفي أحداث الساحل الشهيرة، التي كادت أن تتحول إلى كارثة إنسانية، تدخلت السلطة بسرعة بما يشبه الـ Damage Control. حاصرت الانفلات، ومنعت الفوضى من التمدد، وضبطت ردود الأفعال.


وقبل التحرير كان التوقع السائد أنه لو نجحت الفصائل الثورية في إسقاط النظام آنذاك، لكانت المجازر في الساحل تجاوزت حصيلتها الـ 200 ألف قتيل، مع تهجير مؤكد لأكثر من مليون شخص. لكن الإدارة الصارمة حالت دون ذلك، وأفشلت سيناريوهات كانت كفيلة بوصم الثورة لعقود طويلة بجرائم لا يمكن محوها من الذاكرة.


رسائل التطمين والحوكمة


قبل سقوط نظام الأسد، صدرت رسائل واضحة من قيادة هيئة تحرير الشام إلى الداخل والخارج، تضمنت تعهداً بأن سوريا لن تكون منصة لتهديد السلم الإقليمي أو العالمي، وأن مشروعها ليس مشروع تصدير ثورة ولا فتح حدود، بل مشروع دولة وطنية داخلية.


هذه الرسائل لم تكن مجرد خطاب إعلامي، بل تحولت لاحقاً إلى سياسات عملية: إدارة مدنية، أجهزة رقابة، ضبط للسلاح، ورسائل مستمرة للأقليات بأن وجودهم وحقوقهم مصانة.


الموقف الدولي بعد التحرير


مع بدء التحول التدريجي منذ 2019، تغيّر الموقف الدولي. فالعواصم الغربية، التي كانت تضع هذا الفصيل في خانة الإرهاب المطلق، بدأت تفتح قنوات تواصل غير معلنة. بعضها جاء عبر وساطات إقليمية، وبعضها عبر لقاءات مباشرة على مستويات أمنية وسياسية.


لم يكن هذا تحوّلاً أخلاقياً بقدر ما كان إدراكاً لواقع جديد:


أن السلطة الجديدة صارت اللاعب الأهم على الأرض.


أنها لم تُظهر نزعة عابرة للحدود تهدد مصالح الجوار.


- أنها أثبتت قدرة على ضبط الأمن ومنع الفوضى، والإدارة المدنية عبر تجربة حكومة الإنقاذ.



حتى القوى الإقليمية المتنافسة، التي طالما سعت لاستخدام التنظيمات في سوريا كأدوات، وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع هذه السلطة كحقيقة سياسية لا يمكن تجاوزها. بل يمكن الاعتماد عليها والشراكة معها.



بين الماضي والحاضر


هذا الرجل، الذي هو اليوم الرئيس السوري، عرف وقتها أين يتموضع ليكون الخيار الأفضل للمتناحرين، وكيف يُخرج نفسه من أي استبعاد لأي لاعب على رقعة الأرض السورية. استطاع أن يتحول إلى "الصفر" الذي لا يمكن أن يُقسَم عليه، وإلى الجنرال الذي لا ينقلب عليه، وإلى المشروع الذي تُبنى عليه الخطط الاستراتيجية وتتحطم على حدوده الخطط السابقة، حتى صار محور العجلة الثابت فيما تتغير خريطة المصالح والتحالفات من حوله.


الخلاصة المفتوحة


إن من يراهن اليوم على سقوط هذه السلطة أو انهيارها تحت ضغط خارجي، يتجاهل كل هذا التاريخ القريب. بل ويظهر كمعارضةٍ ساذجةٍ تقدم للسلطة أكبر خدمة ممكنة، لأن كل هجومٍ عليها يتحول إلى مكسبٍ في رصيدها.


يبقى السؤال:

أليست المعارضة التي تُبنى على أوهام الخارج ومصالحه، وتتجاهل وقائع الداخل، هي فعلياً الهدية الأثمن لأي سلطة وطنية راسخة؟


Share this post
Archive
Sign in to leave a comment