في عالم متقلب تتسارع فيه الأحداث وتتعقد فيه الأزمات، تظهر الحقيقة بكل وضوح: الأنظمة التي ترتكز على القمع والهيمنة لا تبني دولة، بل تُشيد ظلاً يختفي مع أول نَفَسٍ من إرادة شعبها. حين تخون الأنظمة شعبها، عندما تتحول الأجهزة الأمنية من حماية الوطن إلى مراقبة المواطن، ويُغيب صوت المشاركة وتُقمع حرية التعبير، يبدأ الظل في الانحسار، وتبدأ رحلة الانهيار. رحيل الظل ليس مجرد سقوط شخص أو نظام، بل موت لعهد استبدادي يُخفي وراءه معاناة الشعوب وأحلامها المكسورة
لقد أثبتت التجارب المعاصرة أن الدول التي تستند إلى بنيان مؤسسي متين، وتُشرك شعوبها في إدارة الشأن العام، تملك مناعة داخلية عالية، تجعلها أقدر على مواجهة الأزمات والصراعات. أما تلك التي تُبنى حول شخص الحاكم، وتختزل الوطن في فرد أو عائلة، فتكون الأكثر هشاشة، حتى وإن بدت صلبة من الخارج.
سوريا مثالًا صارخًا على الانهيار البنيوي للدولة.
لقد حوّل نظام الأسد الدولة السورية إلى هيكل أمني يخدم بقاءه في الحكم، لا بقاء الوطن نفسه. أجهزة المخابرات باتت أقوى من الوزارات، وأخطر من القضاء، وأوسع نفوذًا من البرلمان. كانت مهمتها الأساسية ليست الدفاع عن الدولة أو تحليل المخاطر الخارجية، بل مراقبة المجتمع، ومعاقبة التفكير، وزرع الخوف في النفوس. وبهذا الشكل، تم إقصاء المواطن من الشعور بالمواطنة، وتحويله إلى مشتبه به دائمًا، يعيش في وطن يراقبه بدل أن يحميه.
وحين اندلعت الثورة السورية عام 2011، لم تكن هناك دولة قادرة على الإصغاء أو الاستجابة، بل كانت هناك آلة قمع صماء، حوّلت مطلب الكرامة إلى حرب مفتوحة. وما تلا ذلك لم يكن سوى نتيجة منطقية لعقود من الإلغاء والتهميش. لقد انهارت الدولة لأن المؤسسات كانت وهمية، ولأن المجتمع كان مسحوقًا تحت قدم الديكتاتورية. غابت الدولة، وظهر فراغ مهول، ملأته الفوضى والتدخلات، وانكشفت الحقيقة: لا يمكن لحكم الفرد أن يصنع دولة.
إيران، بدورها، تقف على مفترق طرق شبيه.
فالنظام الإيراني، وإن لبس عباءة "الثورة"، يقوم في جوهره على تغوّل الأجهزة العقائدية والأمنية التي تهيمن على السلطة والسياسات. يُقمع الشعب، وتُحاصر خياراته السياسية والاجتماعية، ولا يُسمح له بالمشاركة الفعلية في رسم مستقبل بلاده. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة احتجاجات متكررة، مثل احتجاجات عام 2009، واحتجاجات مهسا أميني في 2022، التي كشفت بوضوح حجم الفجوة بين النظام والمجتمع. فالدولة، كما في سوريا، لم تُبنى على أسس المشاركة والمواطنة، بل على الطاعة والخوف.
وفي بقية دول الشرق الأوسط، من تونس إلى ليبيا، ومن مصر إلى اليمن، لم يكن الوضع مختلفًا كثيرًا. فقد ربطت الأنظمة القمعية مصير شعوبها بشخص الحاكم، وبقاءه في السلطة، متجاهلة أهمية المؤسسات التي تضمن استمرارية الدولة وحقوق المواطن. وعندما سقطت هذه الأنظمة، شهدنا فراغًا مؤسساتيًا عميقًا، ارتبك فيه المجتمع، وانهارت فيه مقومات الدولة، وأصبح المواطن ضحية انقسامات سياسية ومذهبية وإقليمية، بدلاً من أن يكون شريكًا في بناء وطنه.
باتت شعوب المنطقة تؤمن أن الطريق الوحيد لاستعادة القوة الوطنية يكمن في بناء مؤسسات حقيقية، قائمة على الديمقراطية، والمشاركة الشعبية، وسيادة القانون، وحماية حقوق الإنسان. مؤسسات تجعل من الدولة بيتًا للجميع، لا ملكًا لفرد أو جهاز أمني، مؤسسات تُعزز الشعور بالمواطنة، وتحمي الكرامة الإنسانية، وتضمن تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية.
إن قوة الدولة لا تقاس بالقمع ولا بالمراقبة الأمنية، بل بمدى قدرة مؤسساتها على التفاعل مع شعبها، والاستجابة لاحتياجاته، وتمكينه من المشاركة في صنع القرار. وعندما يشعر الإنسان بأنه شريك، وليس مجرد مراقب أو مشتبه به، تنمو لديه الولاء والانتماء، ويُصبح الحامي الحقيقي لدولته.
الديكتاتوريات لا تنهار فجأة، بل تتآكل بفعل الأزمات الداخلية المتراكمة، ثم تسقط دفعة واحدة، تاركة وراءها شعوبًا في حالة ارتباك وفراغ. أما الدول المبنية على مؤسسات ديمقراطية قوية، فتستطيع أن تتجاوز الأزمات، وتحافظ على استقرارها، وتنمو مع مرور الوقت.