بصراحة، أستطيع أن أتفهم نظرة العالم. فمعظم من قتل ومات سوريون، وأكثر من تسعين بالمئة من شهدائنا أبرياء لا علاقة لهم بالسلاح ولا بالقرار.
من الذي صنع مشاهد القتل والصراعات بين أبناء الوطن الواحد؟ نحن من فعلنا ذلك بأيدينا. بعضنا قاتل لأجل سادته، وآخر لمذهبه، وثالث لحريته وكرامته، فيما بقية الناس كانت تشحذ لقمتها وأنفاسها.
لا أحد يقول "وضعنا مختلف". الفرق بيننا وبين من خرج بثورات أقل دموية هو الوعي الحضاري ومدة السكوت عن الظلم، كلما طال صمت الشعب عن الشأن الاجتماعي والسياسي زادت فاتورة التغيير؛ الوعي الحضاري الذي احترم حياة الإنسان وجعل كلفة التغيير أخف وأرحم.
المقاتلون ماتوا وتركوا خلفهم أرامل وأيتام، أما الديكتاتور أصبح تاجر ومستثمر يسكن القصور.
الحرب الأهلية عرفها لبنان، ثم العراق، ثم مر الربيع العربي على تونس ومصر والجزائر واليمن وليبيا وسوريا والسودان.
كل هذه التجارب رغم تنوعها، لم يتعلم أحد من أحد.
الحقيقة أن كل شعب يثور بقدر ما في داخله من فهم للحياة وقيمة للروح البشرية. فكلما زاد الوعي، كانت الثورة أنظف وأقرب إلى الحرية الحقيقية. وكلما غلبت الهمجية والتعطش للدماء، صارت الثورة مقبرة للأبرياء.
لا أتحدث هنا عن الثورات ضد المستعمر، بل عن ما يسمى بالحروب الأهلية. فالتضحية ضد المستبد شرف وطني، لكن أن نسفك دماء بعضنا بعد سقوط الطغاة، فهذا يعني أن معركتنا لم تكن فقط ضد الطغاة، بل ضد أنفسنا أيضا.
اليوم نحن نغرق في التفاصيل اليومية، نقرأ الأحداث من خلال ربع خبر، ونضيع عن الحقائق الثابتة.
ما أريده هو أن نصل إلى مرحلة نقرأ فيها التاريخ بعيون عاقلة، بعيدة عن الدعاية والتحريض، لنفهم الخواتيم ونتجنب الخسائر.
هذه ليست دعوة للاستسلام، بل نافذة للعقل، محاولة لمد اليد إلى الإنسان العربي كي يفتح أبواب وعيه على أوسع مدى.
أن نحترم الإنسان، لا لأن أحد أوصانا بذلك، بل لأننا استنتجنا أن حياة الانسان مهمة، وأن الكلمة قد تقتل أكثر من الرصاصة، وأن الأخلاق والعلم والثقافة ليست كماليات بل أساس للبقاء.
هذه القيم يجب أن تكون نابعة من قناعة داخلية، لا من شعار مرفوع.
المواطن العربي يحتاج أن يفعل عقله، أن يتوقف عن إلغاء نفسه وتأجير فكره، وأن يتعلم أن الحرية تبدأ من العقل والتفكير السليم لا من فوهة البندقية.
الوعي هو الثورة الحقيقية.