تخطي للذهاب إلى المحتوى

مؤتمر لجنة السلم الأهلي: بين السلم السلبي وعدالة التهدئة وتغييب الضحايا

11 يونيو 2025 بواسطة
محمد زهير عطفه
لا توجد تعليقات بعد

مقدمة


في خضم الانعطاف التاريخي الذي تمر به سوريا بعد أكثر من عقد من الصراع، برز مؤتمر "لجنة السلم الأهلي"  في سوريا المنعقد في 10 يونيو 2025 بوصفه محاولة رسمية لرسم ملامح العدالة الانتقالية. إلا أن القراءة التحليلية المتأنية لمضامين المؤتمر تكشف انزياحات خطيرة عن المبادئ الجوهرية للعدالة الانتقالية، تتجلى في هيمنة منطق "السلم السلبي" على المقاربة، وتغليب ما يسميه ديفيد كرو بـ"عدالة التهدئة"، إلى جانب تغييب مركزي لأصوات الضحايا، وهو ما ينذر بإعادة إنتاج العنف البنيوي تحت غطاء التهدئة المؤسسية.


أولاً: السلم السلبي عند غالتونغ وتطبيقاته في السياق السوري


عَرَّف الباحث النرويجي يوهان غالتونغ مفهومي السلم السلبي والسلم الإيجابي، حيث يشير السلم السلبي إلى غياب العنف المباشر دون معالجة جذور الصراع، بينما يدل السلم الإيجابي على بناء السلام عبر تحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان الحريات، وإصلاح الهياكل السلطوية الجائرة.


في الحالة السورية، يظهر خطاب المؤتمر متمركزًا حول الحفاظ على "الوئام الأهلي" و"منع الانفلات"، دون أي إشارة إلى العدالة الكاملة أو جبر الضرر. السلام هنا لا يعني إعادة بناء العقد الاجتماعي بل منع تجدد العنف. وبذلك، يغدو السلم المزعوم هو ذاته السلم السلبي الذي حذر منه غالتونغ، والذي يعتبر في جوهره تمديدًا للصراع بصيغة مقنَّعة، لإن توصيف الحالة السورية بسياق "السلم الأهلي" يوحي ضمنيًا بأن المشكلة تكمن في توازنات أهلية-طائفية، لا في بنية العنف السلطوي،أيّ تصدير المشهد على أنّ ما جرى لم يكن ثورة شعب ضد نظام استبدادي ، بل حرب أهلية وهو في غاية الخطورة.

الأسوأ من ذلك أن تبعية المجرم لطائفة ما تُستخدم أحيانًا لتبرير العودة إلى التعايش بأي ثمن، حتى على حساب العدالة، مما يُنتج سلمًا سلبيًا مفروضًا، لا اتفاقًا يخرج من العدالة والاعتراف


ثانيًا: عدالة التهدئة عند ديفيد كرو وأثرها في المقاربة السورية


يقدم الباحث ديفيد كرو مفهوم "عدالة التهدئة" كنوع من العدالة الانتقالية الشكلية التي تُوظف لتسويغ الاستقرار السياسي، لا لتحقيق العدالة الحقيقية. في هذا النموذج، تُستخدم آليات العدالة الانتقالية كوسائل لاحتواء الغضب الشعبي، وطمأنة النخب، وضبط المخيلة الجماعية، لا لتفكيك البنى التي سمحت بالانتهاكات.


خطاب مؤتمر"لجنة السلم الأهلي" السوري يندرج بدقة في هذا الإطار. فهو يستعمل مفردات "المصالحة" و"إعادة اللحمة الوطنية" و"الحوار الأهلي"، دون آليات واضحة للحقيقة أو المساءلة أو الجبر. وهكذا، تتحول العدالة إلى أداة تهدئة اجتماعية وتطبيع سياسي، وليست مسارًا لبناء نظام قانوني وأخلاقي جديد.


ثالثًا: منظور العدالة النفسية-الاجتماعية: ثلاثية الشفاء الجمعي


يشير علم النفس السياسي إلى أن المجتمعات الخارجة من صراعات مدمرة لا تكتفي بآليات الدولة أو المحاكم، بل تحتاج إلى ثلاثية شفاء:


المواجهة المعرفية: عبر كشف الحقيقة كاملة وعلنية.


الطمأنة الرمزية: من خلال المحاسبة والاعتذارات الرسمية والتكريمات.


التحول السردي: أي إعادة كتابة الذاكرة الجمعية لتشمل الضحايا وتُقصي الجلادين من صدارة الرواية الرسمية.


بحسب جون بول ليديراك (Lederach)، لا يمكن بناء السلام المستدام إلا حين يتم تضمين البعد العاطفي للصدمة الجماعية، والذي يتطلب ما يسميه بـ"الفضاء الأخلاقي للسرد" – حيث يتم الاستماع إلى الضحايا، لا لمجرد توثيق الألم، بل لتحويله إلى معرفة جماعية تؤسس لوعي جديد. ويشير عالم النفس السياسي برِتون (Neil Brewer) إلى أن العدالة الانتقالية التي لا تُعالج مشاعر الإذلال والخذلان والعار، تُخاطر بخلق جيل جديد من الغضب السياسي.


تُظهر التجارب في جنوب إفريقيا، حيث كانت جلسات لجنة الحقيقة والمصالحة مشفوعة بسرد مؤثر من الضحايا، كيف يمكن للعاطفة الجمعية أن تتحول إلى مسار للمصالحة. أما في الأرجنتين، فقد استُخدمت شهادات ضحايا الديكتاتورية في المحاكمات لبناء سردية مضادة للإنكار. في رواندا، رغم بعض الانتقادات، أتاحت محاكم الغاكاكا التقليدية نوعًا من الاعترافات العامة التي ساعدت على إعادة النسيج الاجتماعي ولو جزئيًا.


غياب هذه المستويات في المؤتمر يُفضي إلى استمرار الجرح النفسي في الوعي الجمعي السوري، خاصة مع غياب أي إشارات للذاكرة، أو لملفات الاختفاء القسري، أو لضحايا التعذيب. فالعدالة بدون تعافٍ نفسي-اجتماعي تبقى شكلانية، ويصبح المجتمع سجين سرديات رسمية مجروحة.


رابعًا: مركزية الضحايا في العدالة الانتقالية


تشدد أدبيات العدالة الانتقالية، كما طوّرها باحثون كـ"مارثا مينّو" و"خوان مينديز"، على أن الضحايا ليسوا مجرد متلقين للعدالة، بل هم مشاركون محوريون في صناعتها. يجب أن يكونوا ممثلين في هيئات الحقيقة، وفي صياغة السردية الجديدة، وفي آليات الجبر. يوضح مينديز أن أي عملية عدالة انتقالية تستثني الضحايا من الحضور والقرار تمثل إعادة إنتاج للإقصاء ذاته الذي مارسته الأنظمة القمعية. أما مارثا مينو فتؤكد أن غياب أصوات الضحايا من المشهد العدلي يُنتج سرديات زائفة تُطَبِّع مع الظلم، وتُفقد العدالة بعدها الأخلاقي، مما يحوّلها إلى تمرين بيروقراطي بلا عمق.


تجربة بيرو – حيث تم إقصاء ممثلي المجتمعات الأصلية من لجان الحقيقة – تُعد مثالًا على إخفاق العدالة حين تُبنى دون مشاركة الضحايا الفعليين. في المقابل، كانت تجربة سيراليون أكثر شمولًا، حيث تم إشراك الضحايا في وضع تصورات التعويض، مما أكسب العملية شرعية ومصداقية.


تغييب الضحايا عن مؤتمر العدالة السوري – سواء في التمثيل أو في الإشارة لحقوقهم – يمثل انتهاكًا جوهريًا لهذا المبدأ. فالعدالة دون ضحايا، هي عدالة بلا ذاكرة، وبالتالي بلا شرعية. وهي تُخلي المجال لعودة الجلاد من بوابة المصالحة الزائفة.


خاتمة

إن مؤتمر "لجنة السلم الأهلي" السوري، كما ظهر في صورته الحالية، يعيد إنتاج منطق السلم السلبي، ويُعيد توظيف مفاهيم العدالة الانتقالية في إطار عدالة تهدئة، ويقصي الضحايا من قلب العملية، ويُهمل تمامًا الاعتبارات النفسية-الاجتماعية، والاقتصادية، والدستورية الضرورية لبناء مجتمع ما بعد الصراع.

شارك هذا المنشور
الأرشيف
تسجيل الدخول حتى تترك تعليقاً